"أبو راجي" شمعة أم الحمام التي انطفأت
قال الله تعالى في كتابه العزيز: بسم الله الرحمن الرحيم
(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
صديقي لوغيرُ المماتِ أصابكم ***عتبتُ ولكن ما على الموتِ معتبُ
أبا راجي يـا فـارساً ترجلت عن فرسك الأصيل مبكراً مكرهـــا ، أيهـا المسافر عبر السحاب ، الراحل الى مـا وراء الغمـام في السمـاء العليـا ، برحيلك أيها الانسان الطيب ، المحب ، الهادئ ، ذو الخلق الرفيع ، فـان أم الحمام قد خسرت شخصية مرموقة من شخصيـاتها الوطنية الكبيرة المحبوبة. كيف مضيت سريعـــاً دون وداع ، ولمـا غادرتنـا بهذه العجالة ، وشجرة حيـاتك لا تزال خضراء ومثمرة وفي قمة عطـائهــا. هل سئمت الحياة بسبب معـانـاتك مع المرض في هذا الزمن الصعب؟
ولـكني كـنت أعلم بالوحـدة الموحشـة التي سـتحـل بأيامى مـن بعـد غيابه الأبـدي ، فظللـت واجمـاً مهمومـاً وظـل القـلم جامـداً في يـدي ، كمـا الحـروف تناثـرت وتـاهـت الكلمـات ما بـين وجـومي الأبـله وعبـراتي المتقاطـرة متكاسـلة حائـرة.
في مثل هذه اللحظات ، لست أنسى وأنا أضع القلم أن أعزي نفسي المكلومة ومن ثم عائلتك الكريمة الصابرة الوفية السائرة على إثرك ونهجك ، لحظات حبستْ لها الأنفاس ، وخفقتْ لها القلوب ، وتدافقتْ فيها المشاعر، واستعيد فيها شريط الذكريات ، الأخ الحنون الذي رحل عن هذه الدنيا ، وودعها فاجعة عجزتْ أمامها الكلمات التي مهما كبرت عن ألم فرقاك لا ولن تستطيع أن تعبر ، سيطول الفراق ، وستذرف العيون دموعها ، لكن الحقيقة الخالدة تقول :" كل نفس ذائقة الموت " وأمامها لا نملك إلا القول: " إنّا لله وإنّا إليه راجعونَ ".
رائحتك ما زالت عالقة في خاصرة أيامي ، هول المصيبة ، وألم الفقد ، والحزن ، والبكاء ، وارتعاش النبض. اللهم اغفر لمن عشنا معهم أجمل السنين ، وهزنا إليهم الوجد والحنين ، واجمعنا بهم في جنت نعيم يا رب العالمين. رحم الله ضحكات لا تنسى وملامح لا تغيب عن البال ، وحديثًاً اشتقنا لسماعه.
لا الدمع يكفكف الآم الرحيل ، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقد ، ولا التوقف عند محطات الاصدقاء يجلب شيئاً من السلوى. للموت جلال أيها الراحلون ، ولنا من بعدكم انتظار في محطات قد تطول وقد تقصر ، وقد ترهق وقد تصفو ، وقد تُضحك وقد تبكي ، حتى يقدم بلا هيبة أو تردد ، يختارنا واحدا اثر آخر.
فكل ما حولي في هذا اليوم يوحي بالذبول ، حتى الكلمات تتدحرج فأستعيدها من قاع التردد لتبقي على خيط الحياة المدود. نحن وحدنا من تمتد به الحياة نبكيكم ، ونذرف الدمع في وداعكم ، ونشيعكم لمثواكم الأخير، ونحن لا نكاد نصدق أننا لن نراكم بعد اليوم.
وبحكم صداقتي المديدة معه والتي تمتد إلى أكثر من 40 عاماً ، فيها تقاسمنا الفرح والشقاء ، يمكنني بحق الصحبة مع الراحل وتكريماً له ولمواقفه الرجولية أن استل قلمي في يوم مواراة جسده الثرى مباشرة لأنثر ما به من لوعة الفقد ، وأرسم صورة قلمية بأهم محطات عمره في عجالة. وسأكون مقصراً لو أني لا أقدم على هذا العمل ، ليس لأنه يستحق ذلك ، بل لأني مدين له بذلك وأكثر.
رحلت يا ابا راجي وتركت لنا ابتسامة صافية صادقة ، ابداً لن تغيب شمسك ، صورتك لا تفارقني ، معذرة فأحياناً تعجز الكلمات عن التعبير ، لكنني أجد البكاء في صمت على من أحببت بكل صدق ، هو صبري وعزائي الوحيد. ومـا أصعب الوقـــــوف على تراب تعلمـه أنــه يخفـي حبيبـاً عنك ، وهو يحضنـه بدلا منك ، مـا أصعب أن تخونك الدمـوع وأنت بحاجة إليهـا كي تُطفئ لهيـب القلب وناره.
لقد ذهبت يـا أبا راجي وتركت في النفوس لوعة ، وفي القلوب غصة ، وفي العيون دمعـاً وخاصة لدى من شاركك الحلوة والمرة في حياتك ، لكنك رغم بعادك عنـا فانت تعيش معنـا ، وفي افكارنـا ، وفي احلامنـا ، وفي ضمائرنـا ، نذكرك مع الأصيل ، ونراك عند الفجر بسمة حلوة في افواه الأطفال الصغار ونسمعك نشيداً شجيـاً مع تراتيل الأبرار والصديقين في الفردوس السماوي. فنم قرير العين في مثواك السرمدي يـا قرة اعيننـا ، ومهجة قلوبنـا ، وتـاج رؤوسنـا ، ولتسعد روحك الطاهرة في علياها فمـا هذه الدنيــا الا دار فناء وزوال.
على قبر الحبيب وقفت يوماً ، فمنذ وقوفي جال بخاطري ذكرى الأحبة ، نظرت وإذا أنا على سياج مقبرة الحبيب ، هناك وارته الأرض عنا ، هناك غيبه الثرى فلا نستطيع له رؤية ، هناك ودعته وداع بلى لقاء ولا رجعه ، لقد غابت شمسك يا ابا راجي ، وغادرت روحك جسدك لتنام في قبرك والملائكة تحفك ، والله أن فراقك يؤلمنا ، ولكن تحيا في قلوبنا الى أن نلقاك.
وبالأمـس القـريب عنـدمـا فوجئنـا بـخبـر رحيـل الحاجة حـرم المـرحـوم الاستاد أبا راجي ذُهـلت ، وأحسـسـت أنه رحـل اليـوم معهـا ، رحــلا عنـا معــاً ، ومـن يـريـد ان يتحـدث عـن مآثـرهـا قـد لا يتمـكن مـن فعـل ذلك ، لأن كلاهمـا كانـا ينبـوع محـبة ووفـاء وسـخاء ، وكانـا يشـار اٍليهمـا معـا بنفـس هـذه الصفـات الحميـدة.
أعلم أنك لن تقرأ حرفاً مما أكتب ، ولكني أكتب كي أراك في حروفي وكلماتي ، أني أكتب عن إنسان كان نادراً في هذا الزمان ، يا من كنت أنيسا لوحدة الطريق ، وكان حديثك سلوى لغربة الحياة ، وكان عطر ابتساماتك فواحاً في أصعب الظروف ، وطيب كلامك مؤنساً في مطبات الدروب.
هناك في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام رقد جسمك الطاهر مستباحاً ، حيث تشابكت الأجهزة والأسلاك والأنابيب في جسمك وفوق جسدك ، كم نحن ضعفاء أمامك ، نقف مذهولين حزانى ، مسلوبي الإرادة ، ضعفاء أمام شيء فتاك اسمه مرض العضال ، يأخذ هذا اللعين ، شيطان الموت والحياة ، يأخذ منا أحبتنا الواحد تلو الآخر ولا نستطيع فعل شيء.
هناك استباح جسمك مرض السرطان ، كما يستبيح السرطان السياسي والطائفي هذه الأمة الممزقة والمشرذم من المحيط الى الخليج. استباح داء السرطان جسدك الطريّ ، هجمة خلف هجمة ، قاومت كل الهجمات بإرادة المؤمن العاشق الذي يعشق الحياة بكل الوانها ، ولكن قضاء الله وقدره.
كانت تتساقط دمعاتنا دون أن يراها أحد من الذين يتجمعون حولك ، كانت قلوبنا تنزف مثل قلبك يا صديقي ، ولم نتمكن مثلك تماماً من صد ورد هجمات هذا المرض الفتاك اللعين. مع أننا قاومناه معك بكل ما في القلب من خشية وحزن وألم ودعاء ، وبما نختزن لك فيه من حب وفرح وإخلاص وتفاني وأمانة وخفقان دائم ولكن رغم كل هذا فارقت الدنيا الى عالم الاخرة.
كم هو مؤلم ذلك الفراق! وكم هي جارحة لحظات الوداع ، أما فقد الاحبة فيترك في النفس انكسارات لا تنسى ، ولكنه الموت ، الحقيقة الكبرى التي لا تقبل الجدل ، قال الله عز و جل: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). صدق الله العظيم.
رحل مبتسماً رغم مرضه ومعاناته ، وفي صمته حزن كغروب الشمس ، رحل وفي جعبته أجوبة كثيرة لم أسمعها منه ، لكن في هذه الدنيا لغة غير لغة الكلام يفهمها من يحس بقلبه وبروحه ، تقرب القلوب وان تباعدت الاجساد, رحل وترك في قلبي أغلى ذكرى.
صدقاً ما أصعبه من شعور عندما تتعلق أرواحنا بأناس أحببناهم ، وتفاجئ بأنهم رحلوا ، وتركو خلفهم مزيج من الشجوون. رحيلك أفقد الحياة معناها ورونقها ، فأصبحت كراوية مملة وكزهرة حرمت من الربيع. يكفي ثم يكفي ، فقد مللت الحديث مع وحدتي والشكوى والبكاء لها ، وأصبحت الاحلام عزائي الوحيد في تضميد جراحي.
فليبكي جميعكم معي حزناً على صديق عمري ، أعطوني عيوناً ابكي بها فقد جفت مدامعي ، الايام تجري وما زال القلب يبكي. والله يا اخي ابكيت قلبي قبل عيني على من ماتوا وتركونا واصبح الحزن دائماً صديقناً ، فراقهم صعب ومن المستحيل نسيانهم ، لم يعد للحياة طعم بدونك ، والدنيا كانت بك كبيرة ، فأصبحت بوفاتك كخرم إبرة صغيرة تضيق بها أنفاسنا.
بكيت وهل بكاء القلب يجدي ، فراق أحبتي وحنين وجدي ، فما معنى الحياة اذا افترقنا ، وهل يجدي النحيب فلست أدري ، فلا التذكار يرحمني فأنسى ، ولا الاشواق تتركني لنومي ، فراق أحبتي كم هز وجدي ، وحتى لقائهم سأظل أبكي.
وأشعر أن الطهر كله يسكن بيتنا كلما كان متواجداً فيه ، ويحل السلام والأمان على قلبي كلما شعرت أنني بقربه. كان لي أخ أعيش لأجله و قد أموت لأجله ، يمزقني الحنين اليه من لحظات الوداع ، أشتاق له ملايين السنين كل يوم ، عدت اليوم لأدفنه تحت التراب ، رحلت و أنا مقبل إليك بجبال من الحنين والاشتياق ، فمن يحل لي مشكلة شوقي المتراكم. غدر الزمان بي ، ويا ليت لي حيلة آخذ بها حقي من هذا الزمان.
رحمك الله كنت ملاكاً عبقرياً يملوه الطهر والنقاء والنبل ، واسع الخيال ، كريم النفس ، له روح شفافة واضحة منذ أن عرفته ، كانت ملامحه الهادئة تخفي الوداع المبكر بصبغة حزن عليها مسحة من جمال روحاني طاغ ، وطهر داخلي يعكسه سلوك ملائكي ، لا يتحدث إلا القليل من الكلام الحكيم والجميل.
لن يلومنا أحد ، لو بكيناه العمر كله ، وحملنا حزنه المر العذب ، في قلوبنا المكلومة حتى ثمالة الألم ، ولن نلوم جراحاتنا لو نزفت دما ، ولا أدمعنا لو أهرقت هدراً ، ولن نلوم بوح ابنائه لو عجزواً عن البكاء. كان ملاكاً ، أهدانا الدروس والآلام والعبر. كم كنا نحبك حبا لا يوازيه حب ، وكم كانت الحياة جنة بك ، وناراً بدونك. ندعو الله أن يمتعنا بلقائك يوم القيامة شفيعاً لنا في جنته ، ورفيقاً لا يفارقنا.
رحل عنا الى عالمه الروحاني بعد أن هز وجداننا الداخلي كزلزال مدمر ، وتركنا نقاسي عذابات الفقد والمرارة في هذا العالم البالي الفاني الكدر الظلماني ، كي ندرك الحقيقة الأبدية ، صدق الله حين قال: (كل نفس ذائقة الموت ، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وادخل الجنة ، فقد فاز ، وما الحيوة الدنيا الا متع الغرور).
لعمري أيها الأخ والصديق أبو راجي: ما كان أجمل الجلوس في حضرتكم والاستماع إلى أحاديثكم النيرة التي كانت دوماً تبعث على الأمل والتفاؤل والإقدام ، وتالله يا صديقي إنك كنت رجل المهمات الصعبة . كثيرون هم من يعرفوك بالابتسامة والوداعة والنظرة الثاقبة ، وكثيرون هم من يتذكرون مشاعر الود والدفء في أحاديثكم ، وكم هوَّنت من أمور كان بعض الناس يرونها مدلهمة.
أيها الصديق العزيز: نم قرير العين في قبرك ، لقد عانيت كثيراً من شرور هذه الدنيا الفانية ، ومساوي هذا الزمن الرديء ، وقسوة الحياة ، ستبقى حياً في قلوبنا وفي ارواحنا ، فنحن نحبك ما دمنا احياء نرزق.
ها أنا اليوم بعد رحليك لن أسمع أجراس الموت تدق في شفتيك ، وأعلم مند أن احتضنك القبر تحت التراب ستمنحك أفواه وقلوب وارواح المحبين والعاشقين والمخلصين الواقفين على أرجل الوفاء في أرض الوفاء ام الحمام الحبيبة الذين يحملون نياشين السلام والمحبة والصدق والطهر ، سيدعون لك بأصوات حزينة ، اللهم تقبله بأحسن قبول ، وأحشره مع محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين ، واخلف على عقبه في الغابرين انك حميدُاً مجيد.
يا صديقي يا قطعة من ذاكرتي ورجلاً صديقاً حجبه الثرى عنا جسداً ، أعلم يقيناً أن العين لن تكتحل بمرآك ، لأن الموت حق وقانون طبيعي يطال بحتميته كل شيء حي ، ولكني في الوقت ذاته موقن بأنك حاضر في هواء ام الحمام الحبيبة تنفسه بملء الرئتين وفي ثراها نبضاً حياً أبد الدهر ، لأنك من المؤمنين بأن الأرض التي ولدت على ترابها تنحت للخلود معنى جديداً لعلك واحداً من عناوينها ، لن أختم حديثي عنك بتحية الوداع لأنك حي فينا وبنا ومعنا.
لن أقول وداعاً بإبداعك الباهر ونقاء سريرتك وترفك الروحي ، أنك سيد الابداع والروح المقتحمة المتعالية على الآلام ، أنت الابقى في الذاكرة بنبلك وزهدك وعذاباتك الطويلة ومنجزك المفعم بالقوة والتحدي والجمال . كنت رقيق القلب ويصعب عليك تقبل سواد العالم. لن نياس ولن نتوقف ونحن نملك كل هذه الرؤى والاحلام والمواقف.
فوداعـاً يـا حبيبنـاً الغالي وداعــاً ، أن الموت حق على جميع الناس ، ولكن حينمــا يرحل الأنسان ويترك اثـاراً حسنة فهذه نعمة من الله سبحانه تعالى ، فالمرحوم أبا راجي كان معروفـاً برجولته وحبه لأحبائه ، لكنه رحل قبل أن تكتحل عينه برؤيتهم مؤزرين بأذن الله تعالى. وستظل روحه الطاهرة تحلق في فضاء أم الحمام وهي في علياها. لقد رحل هذا الجبل الشامخ بعد مسيرة حافلة بالعطاء اكسبته سمعة طيبة في بين أقرانه في المجتمع وسيكونون أهله ورفاقه خير خلف لخير سلف ، وهذا مــا يتمنـاه كل انسان في حيـاته.
لن أنسى مواقفك النبيلة ابدا وانت تمد لي يد المعونة التي كنت أحتاجها في كل مكان وزمان ، يبدوا أننا لن نلتقي مرة أخرى ، والمهم أن نلتقي في جنان الخلد ، في جنات النعيم. أجل لقد وقف الموت بيننا وبين تحقيق الاماني والاحلام والطموحات ، لن ننساك وسنظل نذكرك ، وسنكون أوفياء لروحك الطاهرة على مدى الزمن ، وستظل قائما بيننا لك المجد ولأصدقائك الصبر والسلوان . والى عائلتك الرحمة ، وطول البقاء ، وعظيم الاجر والثواب.
برز في كل شيء إلا في عوالم التزلف والتسلق والأنانية فإنه سجل فيها إخفاقاً ما بعده إخفاق ، لأنها لم تكن من معدنه ، وبنسجه لعلاقاته الاجتماعية , كان ذهباً خالص. رحمك الله وطيب ثراك.
لقد تميّز ( أبا راجي ) بنقاء السريرة ، وطيبة القلب ، ويُجمع كل من عرفه أنه عاش عزيزاً ، نبيلاً ، صادقاً ، مخلصاً ووفياً لرفاق دربه ، رغم تأكيدنا على صدق مقولة شاعرنا الكبير الراحل نزار قباني: «إن كل المراثي في الدنيا لا تكفي لرثاء وردة».
بلى ، لقد كنت كذلك. كنت أخاً لي في السرّاء والملمات على مدى رحلة الحياة ، كنت أخاً لي أقرب إليَّ من إخوتي ، أبناء أمي وأبي. كنت كذلك توأم الروح الساكن في شغاف القلب. صديقاً فقدت اليوم ، وأي صديق ، أخاً وأيُّ أخٍ فقدت. خسارة فادحة ، ومن الخسائر ما لا يعوُّض ، يكثفني بعد غيابك فراغ في النفس أليم مضني ، وخواء في القلب فادح بالغ اللوعة تملأ جوانحي ، والحُّرقة توهن جوارحي.
آه أيها العزيز: أه يا أبا راجي: هل حقاً مضيت وحتى وداعاً لم تقل ، مضيت في صمت ورقة ودعة كما عهدناك في أيامنا الخالية. كنت تضفي على أجواء شلتنا الصغيرة حلاوة آسرة لا تنسى على الأيام.
لم تسئ لي مدى عمرك كله ، كنت تكتم الغيظ وتعفو. لم نعهدك قط حاقداً أو ناقماً ، كنت التسامح عينه، والطيبة ذاتها. ثرَّ العطاء ، سمح النفس. خصالك الأصيلة العريقة.. رهافتك الأنيقة قلما وجدناها في هذا الزمان ، لدى كثير من بني الإنسان. أما الوفاء، إذا ما ذكر الوفاء فلقد تجسد فيك على الدوام. كنت تؤثرنا نحن أصدقاؤك على نفسك. لقد بلوت الإيثار ، إيثار بلغ حدود نكران الذات.
سكبت روحي في بياض قلبك لأرسم لك لوحة مثلى ، وألوان وجهك الملائكي لم تزل طازجة في لوحتي تنتظر عينيك كي تراها ، ولم تشأ ، فهل تراها روحك التي تزورني في خلوتي و أنا أدندن كلماتك وروحي تسرح في صدى صوتك القادم من الغياب.
إنه القدر إذن يحملك بعيداً عنّي ليترك على عباءة الروح جرحاً عميقاً لا أظن الأيام قادرة على محوه أبداً ، ها أنت ترحل وتتركني وحيداً في دوامة الحزن التي انتشلتني منها ذات يوم بكلامك الجميل الذي يزهر في القلب مواسم من الأمل والتفاؤل ، آه يا أستاذي وصديقي عشرات السنوات لم أعرف فيها لفراقك طعماً فكيف سأعتاد على ذلك؟ لا أدري ، صور ومواقف كثيرة تزدحم في ذاكرتي إلى درجة يصعب معها الاختيار ، أي واحدة سألقيها على صدر الصفحة البيضاء؟
لا أدري ، هل أحكي عن قلبك بكل ما فيه من حبّ وودّ وطيبة ، أم عن كلماتك بكل ما فيها من رقّة وإبداع ، أم عن أبا راجي الإنسان الذي كان يذيب كآبتي بطريقة سحرية غريبة ، يطول الشرح إذن فأكتفي من ذلك كله بعبارة كنت أحب أن أصفك بها دائماً وهي ( العود ) الكلمة التي تنساب على الأوراق ليرسم الحب والضحكة والهوى بألوان السحر والوفاء.
لقد اثرت يا استأدي في مرافئ الذاكرة شجوناً كان ومضيها يتراءى في غياهب الافق البعيد ، كأنها ظلت خالدة وعزت بكل عنفوان أن تضعف أمام النسيان ، فأنا واحد من الاحبة الذين نهلوا من علمك وحلمك في مدرسة العمر ، فلك أنحني مقبلا يديك أجلالاً وتقديراً. رحمك الله فلقد كنت وأديا في حبك وإخلاصك.
ستظل ذكراك يا صديقي تتوغل في رسم شوقي كنهر جارف يغرقني ، ستظل ذكراك مدينة حزني أشد الرحال اليها كل ليلة ، وأتجول في شوارعها واقتضى اثار خطاك فيها. انت يا أخي عوالم من الدف ، لا تعوضه شمس تحترق لذا ما عدت أطيق كلمات الرثاء ، ولم أعد املك تعازي أقدمها في محارب اللغة وهشاشة المعنى ، وانا أقف على ذكراك فأنت أكبر من النسيان ، وذكراك أقوى من الحياة ، ومن سيل اللحظات وفيض العمر الخاوي من حضورك.
هل يا ترى حان الوداع فترقرقت منا ألدموع ، وبقيت ذكرى في الفؤاد منها تحرقت الضلوع ، مهلاً يا صديقي لا تقل حان الوداع ، فلا اجتماع ، أنا سنبقى أخوة وأحبة رغم الوداع ، يا أخوتي يا فتية في ليلينا مثل الشموع ، حول القبر تحلقت وتجمعت تلك الجموع ، متمتمه بصوتها الحزين الباكي ، بحجم الحب والامل الذي زرعته في دواخلنا. سنظل بكل الوفاء والاخلاص ندعو لك بالرحمة والجنة والمغفرة والرضوان. ولنا الفقد ، والصبر ، والألم. وداعا يا صديقي ويا من احبه قلبي ، وداعاً يا زهرة لا تليق بها سوى بساتين الجنة وجداولها !
أيها النور الذي يسكن في وجنتيه ، أين أنت ؟ أين غبت ! كيف تجلو ظلمتي ، من ينير الدرب لي ، وأنا ما أستطيع أن أرى إلا عبر ناظريه ، كيف أشذوا ، وشغافي ضائع بين أوتار يديه ، كيف أنهض من مذلة حزني ، كيف أنجو من عذاب الخفق ، وجنون الشوق إليه ، كان ظلا في فضائي ثم زال ، كان طيفا في سماوات الخيال ، كان برقا في حياتي ورحل. وداعا يا صديقي ، ستبقى ذاكراك خالدة في قلوبنا وفي قلوب الاصدقاء الذين احببتهم بكل صدق واحبوك.
اليوم سوف نسجل في دفاترنا وذكرياتنا أنه يوم رحيلك. تمنيت لك نوماً هانئاً بلا تعب ، وبلا ضجيج ، وبلا عذاب وبلا ألم ، نومة هانئة و هادئة. وداعاً يا أخي الذي لم تلده أمي ، فبعد اليوم لن تعد الدنيا كما كانت.
اللهم أغفر لمن عشنا معهم أجمل السنين وهزنا اليهم الحنين. ها هم عائلة أل هلال الكرام يتقبلون التعازي برحيلك الى عالم الاخرة ، ترحلون إلى عالم نحسبكم فيه بعون الله تعالى من الصديقين والشهداء والأبرار، لترقد روحكم الطاهرة بسلام ، فوالله ما نراك الا مبتسماً رافع الراس تماماً كما كنت في الدنيا. وعزائنا في ذريتك الصالحة راجي واخوانه البررة فخير خلف لخير سلف. اللهم اجعل ذريته ذرية صالحة تدعوا له بخير الى يوم الدين.
وفى هـذه العجـالة لا أمـلك اٍلا رفـع كلمـات التعـازي اليتـيمة الباكـية ، لـكل الأهـل والأقـارب اللهم وارزق أهله وذويه الصبر والسلوان والرضا والشكر ، وثبت قلوبهم واربط عليها يا رحيم يا لطيف ، اللهم أجرهم في مصيبتهم وأخلف لهم خيراً منها ، وارحم زوجته التي سبقته اليك برحمتك الواسعة ، وأجمع بينهماً في جنات النعيم.
اللهم اني أسالك بهذا اليوم أن تجعل من فقدناهم على ضفاف نهر الكوثر مبتسمين في أرقى مراتب الجنان ، اللهم وجازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً ، اللهم نور مرقدهم وعطر مشهدهم وطيب مضجعهم وأنس وحشتهم ونفس كربتهم وقهم عذاب القبر وفتنته.. اللهم اغفر لأغلى من غابوا عن الدنيا وأرحمهم وأحشرهم في زمرة المتحابين فيك ، وأجعل ملتقانا بهم في الفردوس الاعلى يا رب العالمين.
ادامكم الله ، ويجعل هذا المصـاب الأليم خـاتمة احزانكم . رافعين الأكف مبتهلين اليه تعالى ان لا يريكم اي مكروه في عزيز قط ، ويحفظكم من كل سوء أنه سميع مجيب.
و ختاماً الفاتحة إلى روحه و روح زوجته الطاهرة.
رفيقك وصديقك الحزين / أبا معتز