حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
اللهم انا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها أمرنا، وتلم بها شملنا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتبيض بها وجوهنا، وتزكي بها اعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وترد بها الفتنا، وتعصمنا بها من كل سوء.
بل الانسان على نفسه بصيرة ولو القى معاذيره، أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وانكر، كما قال تعالى: اقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. لماذا يعتقد البعض أن الاعتراف بالخطأ انكسار وانهزامية؟ وما الذي يجعل البعض بسماحة يحاسبون انفسهم ويعترفون بأخطائهم ويتراجعون عنها بالتصحيح، والمراجعة في ما يخص رأي يُكتشَف فيما بعد أنه لم يكن في محله ولم يقارب الصواب بل حاد عنه.
إن الد ديمقراطية مع الذات ومع الاخرين، أن ننصِف ونكون أكثر مرونة في تقبل الخطأ لأننا نخطئ، وإدراك مكمن الخطأ ولا يكفي ذلك أحياناً خصوصاً فيما يؤخذ عنّا كرأي في قضية ما أو صوت لقرار معين في محيط يتسع أو يضيق. اللب هو أن ندرك أهمية الاعتراف بالخطأ ومحاسبة النفس في تحقيق التوازن النفسي والتآلف مع الآخرين، ومن سماحة النفس ونبل الخلق أن نسعى لذلك بلا تبرير وتعليل وتعطيل لهذه المنهجية التي أساسها محاسبة النفس والوقوف على ثغراتها وإصلاحها.
على عكس ذلك تماماً التحجر والتصلب والعناد والديكتاتورية في الإسفاف بالنفس وغمسها في تراكمات أخطاء قد يدرك تأثيرها، لكن يحجم عن الاعتراف بها ومحاولة تصحيحها تكبراً وتعسفاً وإقصاءً لحق النفس وظلما، وما أشد شيئاً من ظلم النفس وتركها بلا مراعاة حتى يصل صاحبها إلى مرحلة من الاستغلاق والمكابرة والعناد فتأخذه العزة بالإثم.
مَن يردد دائماً ربنا إننا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا، هل يعي حقاً الاعتراف بالخطأ كمنهجية تقويمية وتمهيدية لتهذيب الذات وتطهير النفس؟ والأمثلة في القرآن كثيرة كما في قوله تعالى (قال رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له انه هو الغفور الرحيم) كما فعل موسى حين أخطأ فما منعه شئ أن يقرّ ويتوب.
ان على المؤمن الفطن محاسبة نفسه والاعتراف بالخطاء مهما كان حجمه، حيث ان طاعة الله وأمتثال أوامره تمثل راس المال، والمعاصي هي الخسائر، والنوافل هي الارباح، وليعلم أن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفسية يمكن أن يشتري بها كنز من كنوز الاخرة.
ومحاسبة النفس هو ان يتصفح الانسان كتابه بما دون فيه من اعمال وأفعال، فأن كان العمل محمودا أمضاه واتبعه بما شاكلة وضآها وان كان العمل مذموما استدركه ان امكن، وانتهى عن مثله في المستقبل.
ومحاسبة النفس ما لها وما عليها من اهم المهمات التي يجب على العبد المداومة عليها، لان غياب النفس في لج من بحار الفساد والتيه المنتهية بنار وقودها الناس والحجارة، وان الفساد في الدنيا انما يكون ظاهرا جليا حينما لا يتوقع حسابا من رب قاهر، أو من نفس لوامة.
وحينما لا يتوقع الفرد حسابا على تصرفاته، فانه ينطلق في حركاته كما يحب ويموج كما يشتهي وكما تهوى نفسه، فيتقلب على الحياة ودروبها بلا زمام فيتشبه باهل النار من حيث يشعر أو لا يشعر (أنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآيتنا كذابا).
ينبغي للإنسان ان يرى الله في جميع اعماله وتصرفاته وخاصة في لحظة الخلوة مع الله قبل أن يضع خده على وسادة فراشه يتحتم عليه محاسبة النفس ومراجعة ماذا قدمت يداه من خير أو شر، والمسارعة في اصلاح ذاته وما يتوجب اصلاحه بإصدار عفواً عام عن كل من أساء إليه أو أساء له طيلة اليوم.
أو من خلال ايام مضت سواء بكلمة أو مقالة، أو غيبة، أو شتم، أو أي نوع من أنواع الأذى، وبهذه الطريقة يكسب الإنسان الأمن والسلام الداخلي والاستقرار النفسي والعفو من الرحمن الرحيم. ومحاسبة النفس بما لها وما عليها، وتشجعيها على عمل الخير وتجنبها عمل الشر، هي أفضل دواء في العالم ويصرف من صيدلة الوحي الالهي.
يا من أراد الحياة في أبهج صورها، وأبهى حللها، اغسل قلبك بالإيمان وحاسب نفسك وأعترف بالخطاء وأصدر عفوا عاما لتكون نفسك مطمئنة وهادئة. إن تحويل القلب إلى حيات للضغينة، وعقارب للحقد، وأفاعي للحسد، أعظم دليل على ضعف الإيمان، وضحالة المروءة، وسوء التقدير للأمور.
ما أطيب القلب الأبيض الزلال، ما أسعد صاحبه، ما أهنأ عيشه، ما ألّذ نومه، ما أطهر ضميره، ثم هل في هذا العمر القصير مساحة لتصفية الحسابات مع الخصوم، وتسديد فواتير العداوة مع المخالفين؟
إن العمر أقصر من ذلك، وإن الذي يذهب ليقتصّ من كل من أساء إليه، وينتقم من كل من أخطأ عليه، سوف يعود بذهاب الأجر، وعظيم الوزر، وضيق الصدر، وكثرة الهموم مع قرحة المعدة، والام القلون، وارتفاع الضغط، وقد يؤدي ذلك إلى جلطة مفاجئة، أو نزيف في الدماغ ينقل صاحبه مباشرة إلى العناية المركّزة ليضاف لقتلانا ممن مات في قسم الباطنية صريعاً للتخمة بعد أكلة شعبية قاتلة.
إن أفضل أطباء العالم هم ثلاثة: الدكتور بهجة، وتخصصه الفرح والسرور والعفو والصفح، والدكتور هادئ، وتخصصه أخذ الأمور بهدوء ومحاسبة النفس والاعتراف بالخطاء والدفع بالتي هي أحسن، والدكتور رجيم، وتخصصه عمل رجيم للجسم لمنعه من كل ضار ومن الإكثار من المشتهيات التي يدعو إليها الشيطان الرجيم ومعاونيه.
الحياة جميلة، ألا ترون النهار بوجهه المشرق، وشمسه الساطعة، وصباحه البهيج، وأصيله الفاتن، وغروبه الساحر، لماذا لا تشارك الكون بهجته، فتضحك كما تضحك النجوم، وتتفاءل كما تتفاءل الطيور، وتترفق كما يترفق النسيم، وتتلطف كما يتلطف الطّل. الحياة جميلة إذا أخرجتم منها الشيطان الرجيم، والشر والشك والشتم والشؤم والشماتة وبالاخص قرين السوء، والمشكلة أن بعضنا متشائم تريه وجه الشمس فيشكو حرّها، وتخرج له الزهرة فيريك شوكها، وتشير إلى نجوم الليل فيمتعض من ظلمته.
لذا اقترح عليك ياأخي أن تصدر الليلة قبل الخلود الى الفراش مرسوماً بمحاسبة النفس والاعتراف بالخطاء اذا كان هناك خطاء، واصدار عفوا عاما عن كل من أساء إليك ، وان تكون على اتم الاستعداد للاعتدار لمن أسئت له، وبعدها سوف تلحظ نتائج ايجابية صحية أيمانية بالتمتع بنوم ليلة هادئة سعيدة لم يمر بك ليلة أجمل منها في الحياة.
فهنيئاً لمن يحاسبون أنفسهم في الليل وفي النهار، وهنيئاً للعافين عن الناس والمتسامحين، والقادرين على الاعتذار بنفس راضية مرضية.
والإنسان السوي المؤمن الراشد يكون منزوع الدسم من السم، عنده براءة اختراع لمكارم الأخلاق، مختومٌ على جبينه خاتم (ومن عفا وأصلح وعفا فأجره على الله).
وخلاصة الموضوع يجب علينا جميعا محاسبة النفس والاعتراف بالخطاء بما يرضي الله ، وأن نكون قادرين على العفو والمسامحة في القوة والضعف، لأننا في دار ممر لدار قرار، وما علينا إلا أن نحاسب أنفسنا ونصلحها قبل فوات الأوان، ومن أبصر عيب نفسه، شغل عن عيب غيره، وكان الله يحب المحسنين.
يداً بيد لنتعاون وقلب بقلب لنتحاب، ونسبق الوقت ونتنافس للعودة لمكارم الأخلاق، وتربيتنا العقائدية أسوة بالرسول الكريم صلى الله عليه وأله الطيبين الطاهرين, التي تربى عليها أجدادنا وآباؤنا الصالحين الذين سبقونا بالإيمان، والله خير حافظ وهو أرحم الراحمين.
إن لله عباداً فطنا، تركوا الدنيا و خافوا الفتنا، نظروا فيها فلما علموا انها ليست لحي وطنا، جعلوها لجةً و اتخذوا صالح الاعمال فيها سفنا. غفر الله لنا إساءتنا للغير، وغفر الله لمن أساء إلينا، وغداً نلتقي في الجنة إن شاء الله تحت مظلة، ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين. اللهم اجعلنا من المتسامحين الرحماء الرفقاء، وارزقنا العفو عن من أساء في حقنا يا رب العالمين.
وفقنا الله عز وجل وأياكم الى كل ما يحبه ويرضاه، وصلي اللهم على الحبيب المصطفى محمد واله وصحبه أجمعين.