رحمك الله يا ابو أحمد

اختطف الموت صديقي الذي ادخرته لسنوات عمري، عصا أتوكأ عليها في خريف العمر، واقتطع نصف جسدي الأيمن حيث تسكن الملائكة، فطارنصف عقلي، ونصف قلبي، ونصف ضلوعي، ونصف الرئة القادرة على تنقية هواء الدنيا الملوث بكل الموبقات، تركني صديقي حطام بشروبقايا إنسان به النصف الأسوأ في كل شىء، حيث تعشش الوساوس والشياطين، ونقط العقل السوداء، والدم الأزرق الباحث عن ذرة أوكسجين، ورئة متهتكة غير قادرة على التقاط الأنفاس.

مات صديقي وأخي وحبيبي، الذي كان يمشي أمامي، فيصبح نورالعين الذي يضيء لي الدنيا، والسيف الذي يحمي قلبي، والبسمة التي تعلو شفتي، فإذا سار ورائي يصبح الدرع الحامية لظهري، وجيشي الذي أحتمي به من غدر الزمان والأعداء والرفاق، فإذا حازاني فتارة هو الأب الحاني الذي يحتضنني بين جناحيه، وتارة الأخ مهاب الطلعة قوي الشكيمة وعزي الذي أفخر به، وهو في كل حين الصديق المحب الوفي المخلص الذي أتباهى به في دنيا البشر.

آه يا أغلى الناس وأعز الناس، يا رفيق الدرب، فعلتها وأستسلمت للموت، فليس هذا ما اتفقنا عليه عندما بنينا القبر الذي حلفنا أن يضم جسدينا، ليصهره أديم الأرض، فتصبح عظامنا النخرة، عظم واحد، وشحومنا ولحومنا المتحركة في هيكلين جسد واحد كما كنا نريد في الدنيا. ياصديقي ما اتفقنا على الفراق، فقد سمحت لك بأن تسافر في إجازة قصيرة عدة أيام بعد أن ضاق صدرك من هم الدنيا، وأردت الانفراد بفسحة من الوقت. ما وافقت لك على أن تتركني وحيدا أتجرع نار الوحدة الموحشة، ومرارة الفراق.

هو أعز الناس لانه كان عزيز عند كل الناس، كان طيب القلب والسريرة يوزع الطيبوبة على كل من يريد بدون حساب ، كان قلبه بين يديه يهبه لكل من يتمنى، كان يبكي لبكاء الاخرين ويمسح دمع الاخرين ، إذن هو ترك فجوة في الزمان والمكان ، مكانه أمسى فارغا بدون مكان وزمانه مضى معه ولن يعود، نحمل كل هذا الحزن من أجله، ليس هو حزن، بل احساس بفقدان قطعة منا، الحزن لايعبرعن كثير في مثل هذه الحالات، لايملأ كونا ولا كيانا، شعور بالمرارة يجتاح الجسد ببطء ويجعلك تتذوق المركلما أسلمت خاطرك للذكرى. كان قلبه كبيرا يحمل في طياته حبا لأأم الحمام الغالية وناديها نادي الابتسام. كان محبا وصادقا ومتسامحا

وجادا وخلوقا، كبيرا في طموحاتهوعنفوانه، عشنا قلبا واحد وروح واحداه، مشينا الدرب سويا يد بيد، ولكن لسانك الطاهرالذي لم ينطق أبدا بسوء كان مؤشرا بوضعك في خانة العقلاء والاصدقاء الاوفياء.

وما الدهر ألا هكذا فاصطبر له رزية مال أو فراق حبيب

آه تموت قبلي وتتركني في هذه الظلمة الموحشة، فلم أعد أملك سوى جسد محطم وشريط من حكايات لن يراها من حولي، تدفعني تارة للضحك وأخرى للبكاء، فأبدو كالمجنون أتتذكر كيف التقينا للمرة الأولي، فأنا لا أدري حتى الآن، كل ما أعرفه أننا تقابلنا ونحن صغارا منذ اكثرمن 40 عاما، فإذا بهذا الطريق يصبح كالقضبان التي تدفعنا سويا إلى مقعد واحد في قطار يتخبط بنا في الدنيا، فتارة يرفعنا وأخرى يهوي بنا في واد سحيق، على أمل أن يكون الطريق الذي سرنا عليه هو الصراط المستقيم الذي سنمشي عليه من الدنيا للأخرة.

نظرت الى وجهه الكريم وهو مسجى، وقبلت جبينه الطاهر بعد أن أسلمت نفسه المطمئنة راضية مرضية الى خالقها، كانت صدمة قوية لم تترك لنا حيزا للتفكير والاستيعاب، رغم كل ذلك فاني لم أصدق انه ودع بدون رجعه، قلت مع نفسي ربما هو في غيبوبة مرحلية وسوف يستيقظ بعد حين، قلت لايمكن ان يحدث موت بهذه السرعة وبهذا الشكل لاعز الناس وأغلى الناس، حاولت التقليل من أهمية المصاب ولكن بدون جدوى. أحسست ونحن نمضي معه اللحظات الاخيرة، أحسست بخليط مشاعر شفقة وحنين ويأس ومرارة وغيظ وغضب وحب وحزن عميق، اللحظات الاخيرة من عمر الانسان صعبة لمن يعيشها عن قرب بكل تفاصيلها، هي الحد الفاصل بين عالمين، نحن هنا في عالم الاحياء وهو هناك يستقبل الموت وعالم الاموات.

لم أبكي في حياتي كما بكيت ذلك اليوم، شلال من الدموع لم أدري من اين نبع، بكيت بحرقة والم، وكلما شاهدت أحدا يبكيه الا وتماديت في البكاء، كيف لاتبكي لحظات موت انتزعت منك عزيز معزة النفس وذهبت به بعيدا، سأستهلك حزني الى آخر قطرة حتى لايبقى منه شيئ، ثم سأعود تدريجيا الى الناس والحياة كأي من الناس والذكريات، سأحمله دوما معي، لايمكن التخلي عنه باي حال من الاحوال، هو زادي لتتمة البقية الباقية من أيامم عمري وحياتي.

أعذرني يا صديق العمرإذا قلت لك اليوم إني كنت أحسدك، أحسدك على صبرك الجميل وعلى طول بالك، على كل من ظلمك ومن أساء إليك عن قصد او بدون قصد، أحسدك لأني لا أملك قلبا طيبا مثلك قادرا على التسامح إلى هذا الحد، ولكني أعدك اليوم أني أريد أن ألحق بك حيث أنت. فالطهر الذي عشت به مثواه الجنة، وكنت أيام حياتك أراك فأجدد إيماني، وأنا اليوم افتقدك فمن سيعيد لي هذا الإيمان، ويضمن لي أن ألحق بجوارك. سأظل أناديك هكذا كما أحب أن أناديك (خلودي) إلى أن ألقاك، ويقيني اليوم أنك بجوار ربك راضيا مرضيا في دار الخلود في جنة نعيم، فنحن بدونك في الدنيا أشلاء بشر وبقايا إنسان.

أصبر لكل مصيبة وتجلد وأعلم بأن المرء غير مخلد

تدري ما أنتظر الآن وما أتنتظر يا ترى؟ أن يزورني أعز الناس وأغلى ألناس في حلم وأنا نائم ، أريد ان أراه كيف هو الان في العالم الاخر، بالتأكيد أمرر شريط الاحلام كل صباح لعل وعسى أصادف حلمه. يمكن ان يأتيني في الحلم وأنسى الحلم عند الاستيقاظ من النوم، أخشى ذلك بشدة ولكن لابد أن يزورني مرة ومرات، الحزن يدوم ويدوم مادمت أحن وأشتاق اليه، لقد تحول كل شيئ حولي الى كومة حزن تحتل كل حيز في داخلي، ليس لي ما أفعله سوى الدعاء والانتظارأن يصبح الحزن عادة في العادي من الايام.

اللهم إني أسألك بمنك وكرمك أن تتغمد الفقيد بواسع رحمتك، وأن تسكنه فسيح جنتك، وتحشره مع محمد وأل محمد الطيبين الطاهرين. اللهم اجعل في قبره الضياء والنور، والفسحة والسرور، والكرامة والحبور والمسك والكافور، والولدان والحور، وانقل اللهم فقيدنا السعيد من ضيق اللحود والقبور، إلى سعة الدور والقصور، في سدر مخضود، وطلح منضود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم أجمعه مع المتقين في جنات و نهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

الى الله أشكو لا الى الناس أشتكي، انني أرى ألارض تطوى وألاخلاء تذهب

كلمة أخيرة اليك ياصديقي وداعا يا أعز الناس وياأغلى الناس.

محبكم / ابو معتز

التعليقات 3
1
زكريا حبيب
[ السعودية - سيهات ]: 3 / 10 / 2011م - 4:21 ص
اه ابكيتنا ياابومعتز من كلامك رحمك الله ياابا احمد
2
حسين الرضواني
[ المنطقة الغربية - القنفذة ]: 4 / 10 / 2011م - 4:05 ص
ماذا أقول و ما عساني أن أقول , سوى رحمك الله يا أبا أحمد , ستبقى في القلوب خالد .

و الشكر الموفور لك يا ابو عزيز على هذه الكلمات النابعة من القلب و الواقعة في القلب .
3
محمد نصيف
[ سيهات ]: 4 / 10 / 2011م - 4:44 م
اه اه اه يابو احمد الله يرحمك برحمته كنت تمسح على رؤسنه اذا طلعنه من الملعب وحنه مهزومين وتقول انشاء تعوضونها هاذ الكلام ماراح انساه ابد
الله يرحمك انشاء الله وحشرك مع محمد وال محمد
عضو شرف