لا تعتذر عما فعلت

المركز الإعلامي  

بداية ليسمح لي الشاعر الراحل محمود درويش باستعارة عنوانه لمقالتي التي لا علاقة لها بديوانه.

بعد أن دعا الشيخ يوسف الأحمد إلى هدم الحرم وإعادة بنائه منعا للاختلاط، توقع البعض أن يتراجع ويعتذر عن هذه الفتوى غير المسبوقة، ولكنه لم يفعل، وأصر على أنه لم يقل ذلك، وأن كلامه تعرض للتشويه وتحميله ما لا يحتمل، ونسي الشيخ أننا في زمن اليوتيوب وأن كلامه لا يحتاج إلى جاك دريدا ليفككه.

بالطبع لن يعتذر الشيخ، فالاعتذار في ثقافتنا العربية، وللأسف، مرادف للضعف والعجز والهوان وقلة الحيلة، فهو عيب لا يلجأ إليه إلا مضطر اضطرار النابغة الذبياني الذي تأسست اعتذارياته على الخوف والرهبة من السلطة الغاشمة المتمثلة في النعمان بن المنذر.

هل سمعتم بمسؤول عربي – أيا كان موقعه – اعتذر عن خطأ ارتكبه؟ أم إنهم جميعا معصومون عن الخطأ أصلا؟
تتأخر طائرتك ويرتبك جدولك، وربما تضيع مصالحك، وتنتظر اعتذارا فلا يأتي، وإذا حدث أن أتى فبصورة باهتة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، مجرد نص يقال في مثل هكذا مناسبة.

يشتكي الجميع هذه الأيام مما يحدث مع فواتير الهاتف والمبالغ المفوترة وغير المفوترة، ولا أحد من الشركة يعترف بالمشكلة أصلا ناهيك عن الاعتذار رغم كل الأصوات المطالبة بحل جذري.

لا أريد أن أسرد باقي القائمة، فإذا كانت القطاعات الخدمية الربحية فهل نتوقع من القطاعات الخدمية الحكومية أن تعترف بتقصيرها وتعتذر؟!

تقود سيارتك في طريق تعرفه حق المعرفة، وإذا بك فجأة تقع في حفرة استحدثت للتو دون أي إشارة تحذيرية، أو تصعد جبلا يسمونه تخفيفا مطبة اصطناعية بلا سابق إنذار، ( تتشخشخ ) عافيتك وسيارتك، وربما يكون بصحبتك مريض خرج للتو من المستشفى بعد عملية جراحية في العمود الفقري، فتضطر للعودة للمستشفى معه، ولن تلقى بعد ذلك من يعتذر لك ويعوضك عن الأضرار التي لحقت بك، فالسبب أنت والعتب على النظر، وعليك أن تفتح عيونك بشكل أوسع في المرات القادمة، فثقافتنا غالبا ما تطالب الضحية بالاعتذار لأنها الطرف الأضعف في المعادلة، أما الأقوى فإن ذنبه مغفور وخطأه مستور. يقول محمود درويش:

"غفروا
للضحية أخطاءها عندما اعتذرت
عن كلام سيخطر في بالها،
غيروا جرس الوقت
وانتصروا"

الاعتذار ينبع من قناعات فكرية أهمها الاعتراف بالآخر واحترام حقوقه وتقدير مشاعره وحفظ كرامته، وهو يحتاج إلى شجاعة تذعن لمتطلبات الموقف من وضع النفس مكان الآخر وتحميلها مسؤولية أخطائها واستعدادها للتصحيح وتضميد جروح الآخرين التي تسببت فيها، وكل ذلك أمر عسير. والاعتذار بما يحمله من نقد للذات ومواجهة صريحة معها يتهرب منه الكثيرون، خصوصا أولئك الذين اصطنعوا هالة حول شخصهم فيهابون سقوطها أو انجلاء حقيقتها.

إن مجتمعاتنا لن تتقدم ما لم تتعود على الاعتذار حين التقصير، وقبول الاعتذار ممن اعتذر، وحث المخطئ على الاعتذار حتى لا يعود إليه ثانية، وفي ذلك خير الدنيا والآخرة.

علينا أن نغرس ثقافة الاعتذار باعتذارنا لأبنائنا وأهلنا وأصدقائنا وكل من حولنا، حتى نشجع هؤلاء أيضا على الاعتذار حين يسيئوون، فالسلوك ينتقل بالعدوى.